المحتويات
تحذير خطر العولمة
من واقع تجربة الدكتور حسين كامل بهاء الدين، كوزير للتربية والتعليم، بجمهورية مصر العربية، واحتكاكه بطلاب المراحل التعليمية عن قرب، استشعر أهمية أن يحذر الآباء والأمهات والمربين والمعلمين من الخطر القادم، غير ما يطلق عليه العولمة،
فقام بتأليف كتاب “الوطنية في عالم بلا هوية.. تحديات العولمة” والصادر عن دار المعارف، حيث يطلق من خلاله صيحات التحذير من الذوبان في الطوفان القادم، ويوجه أولياء الأمور والمعلمين إلى الأسلوب الأمثل للتعامل مع الأبناء، وترسيخ روابط الانتماء والولاء للإنسان وللعائلة وللوطن، وللمجتمع الإنساني كله.
وكذلك للتعايش الآمن مع العولمة، وبما تأتي به، ويرشدهم إلى كيفية أخذ كل ما هو إيجابي منها ومن حضارتنا.
إرهاصات ومقدمات تحديات الألفية الجديدة
وفي الباب الأول؛ الذي جاء تحت عنوان “إرهاصات ومقدمات تحديات الألفية الجديدة”، يبين أنه قد حدثت في نطاق المعلومات وطرق تنظيمها وتبويبها وتوظيفها ثورة، لم يسبق لها مثيل من قبلُ، فلأول مرة يتضاعف حجم المعرفة الإنسانية مرة كل 18 شهرًا،
بل إن قدرة الكومبيوتر تتضاعف هي الأخرى مرة كل 18 شهرًا، وبالتغير والتطوير الهائل؛ الذي يجري الآن على “الميكروبرسيسور”، القلب المحرك “للسوبر كومبيوتر”؛ فإن احتمالات هذه الثورة تبدو لا حدود لها،
فهناك الآن قدرة على إنتاج شريحة في حجم ظفر الأصبع، تتسع لما يحتويه 100 مليون إلى مليار “ترانزستور”، وفي القريب العاجل فإنه في الطريق الآن “سوبر كومبيوتر” تبلغ قدرته ما كان يوازي قدرة 16 “سوبر كومبيوتر” تكلفتها 320 مليون دولار، “سوبر كومبيوتر” الجديد سيقل سعر الشريحة التي تحتوي على مليار “ترانزستور” – وهي الجزء الأساسي فيه- عن 100 دولار.
وهناك الآن مجموعة شركات تتعاون في إنتاج “سوبر كومبيوتر”، له القدرة على الفهم، يسمى C.Y.C من “الانسيكولوبيديا” (دائرة المعارف)،
ويستطيع الإجابة عن سؤال إجابة مقنعة وعاقلة، تدل على الفهم، ويستطيع أن يستوعب المعلومات، وأن يفهم ما يقال له، وقد وصل الآن هذا الـ “سوبر كومبيوتر” إلى القدرة العقلية لطفل في السادسة أو السابعة،
كما أنه يستطيع أن يقرأ الصحف، وأن يرد على الأسئلة، ويترجم من لغة إلى أخرى، يتوقع “هانز مورافيك” في مؤسسة “كارنيجي ميلونز” للذكاء الصناعي، أنه سيكون بالإمكان إنتاج “كومبيوتر” تفوق قدرته المعرفية والحسابية قدرة العقل البشري، حوالي 2010م.
مرحلة جني الثمار
ويوضح د. كامل: أن على المربين والمعلمين والجميع أن يدركوا أن “التكنولوجيا” ليست خيرًا خالصًا باستمرار، وليست شرًا مستطيرًا على طول الخط، وإنما يتوقف ذلك على الإنسان، صانع هذه “التكنولوجيا” ومكتشفها ومستخدمها..
فهي في النهاية أداة، ولكن إن تحولت إلى سيد أو ديكتاتور، وإذا سيطرت “التكنولوجيا” على الإنسان، فإن ذلك يشكل خطرًا مستطيرًا عليه وعلى حياته، ويشير إلى أننا قد بدأنا بالفعل في جني ثمار بعض هذه الآثار الجانبية، في بعض الدول المتقدمة، وهي الظاهرة المعروفة “بالتكنوبولي”.
(سيطرة “التكنولوجيا” على الثقافة والحضارة)، وما ترتب عليها من موجات مؤسفة من الانحلال الخلقي، والتفكك السري، وتفشي الإدمان والمخدرات، وسيادة العنف والجريمة، وزيادة معدلات الانتحار،
لقد أدت “التكنولوجيا” إلى تفكك النسيج الاجتماعي، كما بنيت “التكنولوجيا” على أشلاء السلام الاجتماعي، وتحولت من أداة ووسيلة إلى غاية، ومن جهاز أو آلة إلى وحش.
سلبيات صناعة البرمجيات
ومن أبرز العواقب الوخيمة التي برزت في إطار وصناعة البرمجيات والوسائط المتعددة، وهو ما يطلق عليه ظاهرة “نينتندو” الحربية المركبة (وهي مجموعة من لعب الكمبيوتر الحربية للأطفال، كانت أصلا تستعمل لأغراض عسكرية)..
بدأت صناعة البرمجيات بكل أشكالها: – المعارك الحربية بما فيها من تدمير وتخريب وقتل وإبادة، وبدأت ظاهرة جديدة ليست فقط في زوال الحاجز بين الحقيقة والخيال، وبين الوهم والواقع،
نقص القدرة على الانتباه
بل أيضًا نتج عنها كثير من الاضطرابات العصبية والنفسية، وعدم القدرة على التركيز: (مرض نقص القدرة على الانتباه)، فضلا عن الاختلال في طرق تعبير الإنسان عن رغباته، وفي حركاته، وبما يؤدي إلى إيذاء نفسه؛ نتيجة اختلاط الأمور عليه، كما لوحظ أن هناك ظاهرة دوار الحقيقة الاعتبارية، وهي شبيهة بدوار البحر.
وتقليل الحساسية عند الإنسان ضد العنف والقسوة هو موقف مشابه للذي يتناول كميات صغيرة من السم، بجرعات متزايدة تدريجيًا، فيصبح في النهاية عنده مناعة ضد هذا السم.
ويضيف بقوله: وتقليل الحساسية عند الإنسان يُفقده مشاعره الإنسانية، ويجعله يصبح معتادًا على العنف والقسوة، كما لو كانت القسوة شيئًا طبيعيًا والعنف ظاهرة عادية،
فقد المشاعر الإنسانية السوية
كما يفتقد الإنسان المشاعر الإنسانية السوية؛ التي تستنكر وترفض القسوة والإيذاء والإيلام، وبدأت تتوالى حوادث مؤسفة، لعل أبرزها حادث قيام اثنين من الصبية بعملية قتل جماعية في مدرسة في أمريكا، لزملائهم ومدرسيهم.
كان هؤلاء الغلمان قد اعتادوا مشاهدة ألعاب وبرامج إلكترونية، لا تختلف كثيرًا عن المشهد الذي قاموا بتمثيله على مسرح الحياة، وكأنهم مستمرون في ممارسته على أزرار “الكمبيوتر”، ومشاهدة آثاره على شاشة الجهاز، واستعاروا أسماء الأبطال الوهميين، واختلط الخيال بالواقع،
والحقيقة الاعتبارية بالمأساة الحقيقية، لقد رأى الصبية المشاهد نفسها على شاشة الكمبيوتر، في برامج إلكترونية، بل قاموا بإنتاج أشرطة فيديو “لسيناريوهات مماثلة”، قبل أن يقوموا بجريمتهم، فلم يهتز لهم جفن، ولم تطرف لهم عين، فقد أصيبوا عمليًّا بمرض فقدان المناعة ضد العنف.
تمجيد العنف
لقد أصبحت صناعة هذه البرامج الإلكترونية التي تمجد العنف، بنية أساسية لثقافة العنف، تمهد الطريق لعالم مروع قائم على الفتك والدمار والقسوة والقتل، ويبلغ حجم هذه الصناعة في أمريكا وحدها 16 مليار دولار، وهي في زيارة مطردة،
برغم صيحات التحذير التي أطلقها العقلاء والمفكرون، ولكن آليات السوق واعتبارات المكسب تغلبت على الاعتبارات الأخلاقية، والمصالح المستقبلية،
لقد ذهبت كلمات المفكرين والمصلحين – بل الرئيس كلينتون نفسه سنة 1998م، أدراج الرياح، لقد بدأنا نسمع عن المجتمع المتسمم “تكنولوجيًّا”، كما بدأ الكثير من المفكرين يكتب ويتكلم عن الشعب الذي تسمم “تكنولوجيًّا”، والذي بدأ يعاني من أعراض هذا التسمم.
خطر على سلوك البشر
ثم يوضح أن من أعراض هذه الظاهرة زوال الحاجز بين الوهم والحقيقة، واعتياد الإنسان على مظاهر العنف والقسوة، فضلا عن انبهار الناس بهذه “التكنولوجيا”، خاصة جيل الشباب، وانقيادهم الأعمى إلى اعتمادهم الكلي عليها..
واعتمادهم على الحلول السهلة: (الوجبات الجاهزة، والمغسلة الأتوماتيكية، والإنسان الآلي الذي يقوم بالتنظيف)، وتشكل ظاهرة الاعتماد على “التكنولوجيا” خطرًا على سلوك البشر، وتقلل من اعتمادهم على الذات، وتغريهم بالحلول السهلة، فضلا عن افتقارهم إلى الأمن..
بالإضافة إلى الشك الدائم في المستقبل، وتوقعهم المستمر لإمكان حدوث كارثة نتيجة خطأ ما: – انطلاق صاروخ أو قنبلة نووية، ونتيجة انفلات هذه “التكنولوجيا”.
وهنا يوضح، أن علينا جميعًا أن نحذر، ونحصن أبناءنا وشبابنا من تلك المخاطر، والتحصين يكون من خلال التربية، القائمة على أسس دينية واجتماعية صحيحة،
كما أن على الأسر والمربين منح أبنائهم الدفء الأسري، والرعاية الكاملة، وتوضيح أهمية أن نتعامل مع التكنولوجيا بشكل جاد وإيجابي، فنأخذ منها ما يتناسب مع قيمنا وأخلاقنا، ونبتعد تمامًا عن كل ما ينافي ذلك، ويتصادم مع قيمنا وأخلاقنا.
ضغط عصبي شديد
ويوضح دكتور كامل: أنه قد أصبحت المجتمعات عرضة لضغط عصبي شديد، سببته “التكنولوجيا”، كما تعرض الإنسان لانتهاك خصوصيته، وفقدان إحساسه بالسكينة والأمان، بل إن أفراد العائلة الذين يعيشون في مكان واحد، أصبحوا أغرابًا، كل منهم مشغول في آلته، أو الجهاز الذي يعمل عليه، أو يتسلى به.
إن التقدم المذهل الذي حدث في مجال الهندسة الوراثية “والتكنولوجيا” الحيوية، والعلاج بالجينات، ونقل وزراعة الأعضاء، أصبح الآن مجالا ليس فقط لاحتكارات تجارية، يمكن أن تثري على حساب آلام البشر وأمراضهم وحياتهم، كما ذكرنا من قبلُ،
بل إلى نشأة عصابات منظمة، تتعامل في هذا المجال بمنطق الجريمة، ويصير الإنسان وأعضاؤه مجرد سلع تباع وتُشترَى، وتجارة يمكن أن تكون مصدرًا لأموال طائلة، لا يهم أن يختطف الأب أو الأم أو الطفل، أو لتنتزع أعضاؤه، أو ليقتل في بعض الأحيان،
ولكن المهم هو ما يساوي هذا الإنسان، أو عضو من أعضائه، في بورصة هذه التجارة السوداء، وما يمكن أن تحققه من ربح في هذه السوق السوداء؛ التي لا مكان فيها لخلق أو ضمير.
كذلك، فإن التقدم المذهل في كثير من المجالات، خصوصًا فيما يتعلق بالطاقة: (الطاقة النووية والليزر)، بالإضافة إلى الهندسة الوراثية، يفتح الباب على مصراعيه لإنتاج أسلحة ووسائل للدمار الشامل،
ليست فقط في متناول الحكومات أو الدول العظمى، وإنما أيضًا في يد الأفراد أو الأقليات أو الجماعات المتطرفة،
هل يمكن أن يأمن الجنس البشري على مستقبله
وهنا يبرز السؤال: هل يمكن في ظل مظاهر الظلم الاجتماعي، والتطهير العرقي، والاحتلال الظالم لأراضي الدول الأخرى، ومظاهر الظلم الفاحشة، هل يمكن أن يأمن الجنس البشري على مستقبله، حينما تتوافر وسائل الدمار الشامل في يد قلة أو أفراد شعروا بالظلم والاضطهاد والتهميش، وأحسوا بالقسوة أو الهوان؟،
أحسوا بغربة مكانية موحشة، ووقعوا في براثن يأس مطبق، فهدموا المعبد على أنفسهم وغيرهم، دمروا الحياة التي أحسوا أنها قست عليهم، أو أنها قد ضاقت بهم؟، سؤال يحسن أن نفكر فيه قبل أن تفاجئنا إجابته الصاعقة.
ثم تأتي اعتبارات البيئة، وما تتعرض له من مخاطر، في إطار هذه القدرة “التكنولوجية” الهائلة، فبجانب الخير الكثير الذي يمكن أن تأتي به هذه “التكنولوجيا” الجديدة، فإن هناك مظاهر مؤلمة لحالات من تدهور البيئة وتلوثها، في كثير من الأماكن.
آثار الثورة “التكنولوجية”
وتحت عنوان “آثار الثورة التكنولوجية” يؤكد دكتور كامل: كان للتطورات الهائلة في المعلومات و”التكنولوجيا” آثار خطيرة على الاقتصاد المحلي والدولي: – الهياكل الاقتصادية عوامل الإنتاج، والقيمة المضافة النسبية والإنتاجية، والسوق والمجتمع، والمستهلك والنظم، والهياكل، والمؤسسات والعلاقات والآليات كما هي، بتغيرات كمية ونوعية لا شك فيها، ولكنها ليست مختلفة جذريًّا عما كانت عليه في عصر الثورة الزراعية؛
فهذه العوامل تأثرت بطريقة كمية، وبشكل يمكن حسابه؛ فالإنتاج في إطار الثورة الزراعية كان إنتاجًا استخراجيًا: – استخراج المعدن والحديد والنحاس والذهب من باطن الأرض، جمع المحاصيل من المزارع، العمالة كانت أساسية للغاية، والمواد الخام كانت مهمة، والأرض كانت محورية، وكانت هي مصادر الثروة الاقتصادية.
الثورة على العوامل الأساسية
لم يقتصر هذا التغير الثوري على العوامل الأساسية، بل تعداه إلى التفاصيل، وأصبح الإنتاج بدلا من أن يكون إنتاجًا ميكانيكيًا أو طوليًا أو خطيًا، في إطار نظام ثابت، أصبح الإنتاج مركبًا وشبكيًا ومقعدًا ومتصلا ومتغيرًا بسرعة كبيرة، وعلى فترات قصيرة، مواكبة لتغير أذواق المستهلكين، ومتطلباتهم المتطورة،
أصبحت هناك ضرورة ملحة أن تتصل خطوط الإنتاج مباشرة بأسواق المستهلكين، عن طريق الاتصال فائق السرعة، وبما يفرضه ذلك من مرونة هائلة على خطوط الإنتاج؛ التي يجب أن تتشكل وتتغير باستمرار، بطريقة فجائية وسريعة ومتلاحقة، وبطريقة جذرية.. أصبحت الميزة الجديدة ليست في اكتشاف منتج جديد،
ولكن أهم من ذلك بكثير اكتشاف طرق تطبيق مبتكرة، أو عمليات تنفيذ الاكتشاف بطريقة أفضل، وبتكلفة أقل، وبسرعة أكبر، والذي يستطيع ذلك فإنه عمليًا يستولي على عائد الاكتشاف من المخترع ذاته.
ويشير دكتور كامل: إلى أنه بجانب ذلك كله أصبحت الاعتبارات البيئية؛ التي فرضها المستهلك وجماعات ضغط غير حكومية – في بلدان كثيرة- تلعب دورًا كبيرًا، كمحدد للقيمة المضافة للمنتج وربحيته، بجانب مكوّن المعرفة فيه،
على أن طبيعة العمل نفسها أصبحت قابلة للتغيير؛ فبدلا من مهنة واحدة، وتخصص دقيق لا يتغير، في إطار الحياة الوظيفية أو العملية للإنسان؛ فإنه في إطار الموجة الثالثة،
أصبح الاحتمال الأرجح هو أن يغير الإنسان مهنته أو تخصصه مرتين، أو ثلاثًا، أو خمس مرات، ولا بد أن يكون على استعداد دائم للانتقال والتكيف والتغير، وإعداد نفسه لمخاطر عدم الاستقرار،
وبما يقتضي أن يسلح نفسه بقاعدة عريضة من الخبرات والقدرات، تمكنه عند الضرورة من الانتقال السلس والآمن، إلى فرصة أخرى، وعمل آخر.
ويقول: وقد كان من المأمول أن تنجح الثورة التكنولوجية والمعلوماتية في استحداث صناعات وخطوط إنتاج جديدة فرعية، تتطلبها الصناعات الجديدة المتنوعة، مثل: البرمجيات والمؤسسات والتسويق والترفيه والخدمات، ولكن هذه الآمال لم تتبلور على النحو المطلوب في كثير من الأحيان، كما كان لهذا التغير تأثير كبير على مستوى التعليم المطلوب، فإذا كان الإنتاج إنتاجًا كثيف المعرفة، والصناعة تعتمد على قدرة العقل والمجالات الواعدة،
وهي: الإلكترونيات الدقيقة، وصناعة الفضاء والطيران، وصناعة وسائل الاتصال، والمواد الجديدة “والتكنولوجيا” الحيوية، والكمبيوتر والبرمجيات، والإنسان الآلي والتعليم عن بُعد، وكلها تعتمد أساسًا على المكون المعرفي في كل منها، عندئذ تصبح المعرفة هي العامل المحدد والمؤثر في تحديد القيمة المضافة النسبية، وذلك يقتضي مستوى معرفيًا، وقدرات متميزة، تحتاج إلى تعليم عالي المستوى، رفيع النوعية، كذلك فإن التغير الذي حدث مع الموجة الثالثة – في تحديد الميزة التنافسية- كان عاملا أساسيًا، يتطلب تعليمًا مختلفًا.
التوصل إلى طرق مبتكرة
إن العامل المرجح الآن ليس فقط في اكتشاف منتج جديد، أو مجرد التوصل إلى “تكنولوجيا” جديدة، بل أصبحت الميزة التنافسية هي القدرة على التوصل إلى طرق مبتكرة، وإلى الآليات المتميزة لإنتاج الاكتشاف،
وذلك أيضًا يقتضي أن يكون على خطوط الإنتاج كوادر قادرة على استعمال الرياضيات المعقدة، وإجادة اللغات، والكفاءة في استعمال “الكمبيوتر”، والقدرة على اتخاذ القرار، والمقدرة على الحكم على جودة الإنتاج على خط الإنتاج ذاته، دون الرجوع إلى جهة مركزية،
كما إن طبيعة الوظائف المطلوبة في الألفية الثالثة، يشكل فيها ما يسمى المحلل الاعتباري نسبة كبيرة من الوظائف المتاحة، وهي تشمل محددي المشاكل، ومحللي المشاكل، والوسيط الإستراتيجي، وتشكل هذه الوظائف من 20 % إلى 30% من الوظائف المتاحة، وتتطلب قاعدة عريضة من الخبرات، ومستوى معرفيًّا مرتفعًا، وقدرة على التحليل النفسي، وقدرات اتصال متميزة، إلى جانب خلفية قانونية، وقاعدة خبرات اجتماعية عالية، وكل هذا يتطلب مستوى مرتفعًا ومتميزًا من التعليم.
وأصبحت كلمة الصناعة الوطنية أو الأجنبية خادعة، أو غير حقيقية على أقل تقدير، ومع تزايد التجارة العالمية وقواعد الجات قلت أهمية هذه الاعتبارات، وأصبحت غير ذات دلالة أو جدوى، وتغيرت علاقات التسويق والتجارة، وبدلا من التجارة المحلية والتجارة الثنائية بين دول مختلفة أصبحت التجارة عالمية، وبدلا من المعاملات التجارية النقدية أصبحت المعاملات “إلكترونية”، وأصبحت التجارة “إلكترونية”، وأصبح حجم المعاملات “الإلكترونية” – في اليوم الواحد- يزيد عن تريليون دولار، بهذه الاكتشافات الهائلة انقلبت كل الموازين والقواعد الكلاسيكية.
العلاقات في عالم بلا أبعاد
وفى مساحة فردها المؤلف تحت عنوان “تطور العلاقات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية عبر التاريخ”، أوضح دكتور كامل: أن العالم كان لا يزال في العصر الجليدي، وكان الانتقال محدودًا للغاية، وكانت هناك عزلة جبرية؛
فالاتصالات بين مجموعات البشر في أنحاء العالم كانت معدومة، والتراكم المعرفي الذي يولده الاحتكاك بين مجموعات البشر كان منعدمًا، ووسائل نقل الخبرات وتسجيلها من مجموعة إلى أخرى، أو من جيل إلى جيل، كانت غير مكتشفة، إلى أن تم كسر حاجز العزلة، وبدأت التجمعات المنعزلة تلتقي مكونة خطًّا متصلا، ناقلة البشرية إلى البعد الأول،
وبدأت عمليات الانتقال في نقل العلم والخبرة والمعرفة، وبدأت عملية الاحتكاك بين الحضارات والأفكار، مولدة في كثير من الأحيان شرارات من الاكتشافات، وومضات من نظريات وفلسفات، وطاقات من الإبداع والتقنيات الجديدة،
ثم جاءت الثورة الإلكترونية وثورة الاتصالات والتقدم “التكنولوجي”، كان التقدم في هذه المسيرة التاريخية الطويلة لمن أخذ زمام المبادرة؛ للذين رأوا الفرص المتاحة، وأدركوا الإمكانيات الكامنة لمن مهدوا طريق التطوير والتحديث.
الآثار الجانبية للعولمة أو “الكوكبية”
وفي فصل “الآثار الجانبية للعولمة”، يشير المؤلف إلى الآثار المحتملة على الدولة ومسئولياتها، ويقول: يتخوف كثير من المفكرين من أن دور الدولة في سبيله إلى الاضمحلال؛ ذلك لأن مهمة الدولة مرتبطة بحدود سيادية، تمارس في داخلها مسئولياتها وسلطاتها،
فإذا أصبحت الحدود مسامية أو شفافية أو مستباحة فإن قدرة الدولة تضعف، بمقدار عجزها عن معرفة أو تتبع ما يدخل إلى مجال سلطاتها ومسئولياتها، وتصبح الدولة في كثير من الأحيان كمن يتتبع شبحًا، أو يطارد وهمًا.
ويذهب بعض المفكرين إلى الدولة التي كانت – في ظل النظرية الكينزية الجديدة- تقوم بوظيفة حارسة رأس المال العالمي، ومصالح “القطيع الإلكتروني”، حيث تصبح الدولة في هذا الإطار عاجزة عن القيام بدورها، في إعادة توزيع الناتج القومي بطريقة أكثر عدلا، وتصبح عاجزة عن حماية مصالح الشرائح الأقل قدرة أو المهمشة، كما إنها تصبح أقل قدرة على حماية البيئة، والوقاية من آثار تلويثها وتدميرها، وتنتهي بأنها لا تستطيع أن تحمي السلام الاجتماعي نفسه.
وفيما يتعلق بالآثار الاجتماعية
يقول: في إطار العولمة قد ينساق كثير من الدول في سباق نحو القاع أو الهاوية، إذ إنها في إطار التسابق إلى مزيد من الإعفاءات والحوافز والميزات النسبية؛ التي تعرضها على المستثمر الأجنبي لجذب الاستثمارات العالمية، تجد نفسها في مواجهة عجز متزايد في إيراداتها، كما إنها – في إطار الاستجابة لشروط العولمة- تجد نفسها مضطرة إلى تقليص إيقاف الدعم لغير القادرين، وإلغاء التأمين على المهمشين، والأفراد الأكثر تعرضًا للمخاطر.
إن نظام العولمة لا يفكر فيما نتعارف عليه في مجتمعنا، وما يطلق عليه أو اصطلح على تسميته (الصالح العام)؛ لأنه ليس في أولوياته، أو على أقصي تقدير فهو يوكل المهام التي تتعلق بهذا الصالح العام إلى مؤسسات هلامية أو وهمية، لا تستطيع أن تقوم بدور فاعل، علمًا بأن (دولة الرفاهية، أو دولة الرعاية الاجتماعية) هو اختراع رأسمالي، من بسمارك وتشرشل وروزفلت، فـ “بسمارك” هو الذي اخترع معاشات العجزة، والرعاية الصحية، و”تشرشل” هو الذي خطط لدولة الرفاهية الاجتماعية؛ التي أنقذت النظام الراسمالي، كلهم كانوا نبلاء من الطبقة الرأسمالية، وأفكارهم هي التي أطالت عمر الرأسمالية، وجعلت النظام الرأسمالي يسود، وساعدت في القضاء على الشيوعية، وكان هذا ذكاءً منهم.
قنبلة موقوتة
ولا تقتصر آثار العولمة على تضاؤل قدرة الدولة في حماية السلام الاجتماعي، ولكن الثورة التكنولوجية والمعلوماتية أدت إلى تغيرات جوهرية في سوق العمل، والتركيبة الاجتماعية لقوة العمل في معظم البلاد، ولا تقتصر هذه الآثار على الدول التي تتعرض لها مباشرة، بل إنها تشكل “قنبلة موقوتة”، تهدد بالانفجار في الدول الغنية والمتقدمة، إذ إن احتمالات الهجرة الجماعية غير القانونية، واحتمالات الإرهاب والتطرف، واحتمالات انتشار الأوبئة الخطيرة، أو تسربها إلى الدول الغنية، يتعاظم مع ظاهرة العولمة، وثورة الاتصالات، وغير ذلك.
إن العولمة كنظام اقتصادي لا بد لها من إطار اجتماعي، إن القرية الكونية لا بد لها من مجتمع تربط بين أفراده وجماعاته علاقات من الاهتمام المشترك، والمشاركة الوجدانية، والمشاعر الإنسانية، لا بد أن يكون للعولمة وجه إنساني، ولا بد للنظام الاقتصادي من مجتمع بشري، وإلا تحول “القطيع الإلكتروني” إلى وحش كاسر، وتحولت القرية الكونية إلى غابة.
وبالنسبة إلى الآثار السياسية يقول:
وإذا نظرنا إلى رموز العولمة فإننا نجد أن بعضهم يمتلكون ثروات، تزيد عن الدخل القومي لعدد كبير من الدول النامية مجتمعة، أليس غريبًا أن “جورج سورس”، أحد رموز العولمة؛ الذي كان وراء أزمة جنوب شرق آسيا، هو نفسه الذي أسس مؤسسة غير حكومية، هدفها الأساسي هو دعم ورعاية ما يسميه بالمجتمع المفتوح،
ويبلغ حجم الاعتمادات التي كان يخصصها من أمواله الخاصة 300 – 400 مليون دولار سنويًّا، يمول بها جمعيات غير حكومية وأهلية، غير خاضعة لأي إشراف حكومي!!،
أو التي يؤدي نشاطها إلى تقليل حجم تدخل الدول في كافة المجالات!!، فهل هو يهدف إلى شلّ يدِ الدولة عن التوجيه والإشراف؟، أو التدخل لتأكيد السلام الاجتماعي، والصالح العام، وحسن توزيع الدخل القومي؟، أو إنه مجرد عمل خيري، في إطار حسن النوايا؟!.
آثار التكنولوجيا الفائقة
اليوم يتكاثر الكلام عن ظاهرة اسمها “آثار التكنولوجيا الفائقة”، على الثقافة والحضارة، وما نتج عنها من موجات من الانحلال الخلقي، والتفكك الأسري، والعنف والجريمة، والإدمان والتهرب من المسئولية، بل الهروب من الحياة ذاتها بالانتحار،
هذه ظواهر تجتاح كثيرًا من دول الغرب المتقدمة، وهو الأمر الذي نحذر من عدوى انتقاله إلينا، ويمثل دور الآباء والمربين والمعلمين دورًا بالغ الأهمية، في الحيلولة دون حدوث هذا الانتقال؛ الذي من شأنه تدمير حياة أبنائنا، والنشء الجديد على كل المستويات؛ ولهذا قصدنا توضيح كافة التأثيرات للعولمة.
ترسيخ مقومات القومية والانتماء
الهوية والانتماء
ثم تبدأ صفحات فصل “الهوية والانتماء.. العرقية والوطنية والقومية”، ويبين د. كامل أن القومية والهوية ليست مجرد اتفاق بين مجموعة من البشر، في اللغة أو الدين أو الثقافة أو الأصل، أو وجودهم المشترك على أرض واحدة،
ولا لأنهم يعيشون حياتهم المشتركة على هذه الأسس، أو حتى على شعورهم بهذه الروابط المشتركة، ولكن الإحساس بالانتماء يجب أن يُرعَى، وأن يُنمَّى؛ حتى يترسخ كإحساس جماعي بالانتماء والهوية، وتلعب المواقف المشتركة والكفاح المشترك ومعارك النضال دورًا هامًّا، في تغذية وترسيخ شعور الانتماء والولاء.
إن تعريف القومية أو الوطن بالشكل المعاصر تعريف قصير العمر، فلقد كانت معايير الهوية والانتماء مرتبطة بكيانات أقل، على مستوى قرية أو منطقة أو مقاطعة، ولم يحدث إلا في القرن الثامن عشر – في أوروبا بالذات- أن بدأت الوطنية كمفهوم معاصر في الظهور، مرتبطة في الأصل بالملك أو الإمبراطور،
ثم بدأ المفهوم السياسي والاقتصاد في تشكيل أبعاد القومية أو الوطنية، وفي القرن التاسع عشر – مع اتساع حجم التجارة العالمية- أخذ البعد الاقتصادي جانبًا هامًا من مفهوم الهوية الوطنية، والعلاقة بين كلمة العرقية والقومية أو الوطنية علاقة معقدة، مثل العلاقة التي تربط العرقية بالجنس أو السلالة.
ثم يتساءل ويقول:
هل شعور المصريين بالوطنية يرجع إلى أقدم العصور؟، هذا سؤال مهم، هل كان هناك شعور حقيقي بالوطنية عند المصريين منذ فجر التاريخ؟، والإجابة قاطعة نعم، كان هناك شعور عميق بالوطنية عند المصريين القدماء، ولقد كانوا يعتبرون أنفسهم وطنيين أصلا، نشأوا ووُلدوا في بلادهم، وكانوا شعبًا معتزًّا بنفسه، ويوصي هنا – دكتور كامل- بضرورة ترسيخ مقومات القومية والانتماء، لدى النشء والأجيال الجديدة.
ثم تبدأ صفحات فصل آخر، جاء تحت عنوان “مشروعية الوطنية في عصر العولمة أو “الكوكبية””،
ويقول دكتور كامل: الوطنية تشكل إطارًا للقيم الإنسانية، الوطنية لا تشكل جدارًا لسجن، ولا حافة لخندق، ولا حاجزًا لمنفى، إنما هي تشكل معبرًا للالتقاء بالإنسانية كلها، الوطنية سياج للحماية، الحماية للقيم الإنسانية الأخلاقية، والتطعيم ضد الضياع والتهميش واللا مبالاة.
الوطنية حب وتعاطف، وليست تطرفًا أو كراهية، حب للأرض والإنسان والعائلة والقيم والخير والجمال، إن التحلل من الارتباط بالأرض أو الجذور هو بداية انفراط عقد الانتماء لسلسلة من الارتباطات بالمكان والزمان، لا نريد ردود الأفعال التي يمكن للعولمة أن تتسبب فيها، في زيادة لروح التعصب، ونزعات التطرف، والرغبة في الانتقام، والغربة المكانية التي يمكن أن تؤدي إلى هجرة زمنية، أو عداء للمجتمع الذي لم يفكر فيهم، ولم يعبأ بآمالهم ومتطلباتهم، فحولهم إلى أقليات شاردة، وشراذم مهمشة، أو عصابات يائسة، وقد يمتلكون بفضل الثورة “التكنولوجية” أسرار القوة، وعوامل التمرد.
القومية في عصر الكيانات الكبيرة
ثم يقول: ظلت الوحدة العربية أملا بعيدًا، أو على الأقل لا يبدو له تطبيق قريب؛ وذلك بفعل صراعات وأحقاد ومرارة تراكمت على مر العقود والسنين، وصلت في بعض الأحيان إلى حد حمل السلاح، والحروب بين الأخوة والأشقاء،
إن تحقيق الأمل نتيجة هذه التراكمات سيحتاج إلى وقت طويل، وجهد كبير، ولكني أؤمن أن الدول العربية تملك – بحمد الله- مقدرات وثروات وإمكانات، ترشحها لتكون كيانًا قويًّا كبيرًا، له تأثيره في المجال الدولي، فقد حباها الله بمفكرين وعلماء وأدباء، ومنحها ثروات طبيعية كبيرة، وأودعها مدخرات وموارد هائلة، وتربط بين جوانبها كل مقومات الوحدة الطبيعية، والتعاون في مجال التعليم.
إن الأمة العربية تملك من خبراتها، ومن مراكزها العلمية، وإمكاناتها المادية، ومن تاريخها الذي يشهد بالسبق في العلم والمعرفة والثقافة والتعليم، ما يمكنها من أن تقيم تعاونًا وثيقًا في مجال التعليم للأجيال القادمة، وإن كانت الخلافات الحالية تعرقل التعاون في مجالات أخرى – لتعارض المصالح التي تتعلق بالجيل الحالي- فإنه لا يجوز لنا، ولا مبرر عندنا، لأن نختلف في مصالح الأجيال القادمة، وذلك فيما يتعلق بالطفولة والتعليم.
دور التعليم والمستقبل
ويشير إلى، أنه يأتي على رأس المؤسسات المسئولة عن تحقيق الوحدة المؤسسة التعليمية؛ التي وإن نادى البعض بأنها هي الأخرى في سبيلها إلى الزوال، وأن التعليم في إطار الثورة الإلكترونية – وفي إطار ثورة الاتصالات، والتقدم “التكنولوجي” الهائل- سيقل تأثيره، وتتهمش قيمته، مع الاكتشافات الحديثة،
ومع تسليمنا بأن هناك أشكالا وأساليب جديدة للتعليم، وأن هناك اكتشافات كبيرة، تؤدي إلى تغيير طرق التعليم، إلا أن المنظمة أو المؤسسة التعليمية، وإن تغير دورها، وتطور شكلها، وتنوعت أساليبها، ستظل بالنسبة لظروفنا الخاصة حاملة وحامية للمسئولية التاريخية؛ التي لا يمكن أن ينوب في تحملها أحد غيرها.
الحاجة إلى مدرسة جديدة
وهنا يشير، إلى أننا في حاجة إلى شكل جديد، ونوع جديد، نحن في حاجة إلى مدرسة جديدة، مدرسة المستقبل.. مدرسة بلا أسوار، ليس بالمعنى المادي للأسوار، ولكنها مدرسة متصلة عضويًّا بالمجتمع، وبما حولها من مؤسسات مرتبطة بحياة الناس، متصلة بقواعد الإنتاج، متصلة بنبض الرأي العام، متصلة بمؤسسات الثقافة والإعلام..
مدرسة متصلة بمؤسسات الحكم الإنسانية والتربوية، في كل دول العالم، وتمتد ببصرها وبصيرتها إلى المستقبل البعيد، بكل متغيراته، وكل تطوراته، وكل احتمالاته، يتلاشى فيها الحائط الذي يفصل فيها الدراسة عن الواقع، التعليم عن الحياة العملية، المناهج عن متطلبات المجتمع، مدرسة متطورة في أهدافها ومحتواها وأساليبها.
نحتاج معلمًا له من خبراته التربوية، وثقافته المتنوعة، ومن قاعدته المعرفية العريضة، ومن إمكاناته الفكرية المرتفعة، ومن خبراته السياسية العريضة، ومن قدرته على التخيل، وعلى الحلم المسئول، والتطور القائم على الإحساس بالمتغيرات، قادر على مشاركة أبنائه في استكمال استعدادهم؛ للتعامل مع مستقبل مختلف – كلية- عن حاضر عايشناه، أو ماضٍ عشناه.
نحن نحتاج معلمين لديهم قرون استشعار، تتحسس التغير في كل مكان، وتكتشف الفرص والإمكانات في كل ميدان، ولديهم القدرة والبصيرة على استشراف المستقبل، وتوقع تطوراته واحتمالاته، معلم لديه القدرة على تثقيف نفسه، وزيادة معارفه؛ لمواجهة كل هذه المتغيرات.