بسم الله الرحمن الرحيم.. أشكر لكم جهودكم التي تبذلونها في هذا الباب، وأسأل الله تعالى أن يثبتكم ويثيبكم خيرًا. أنا مدرس في ثانوية للبنات أدرس الصف العاشر (أعمارهن 15 – 16 سنة). قلن مرة إن إحدى المدرسات قالت إن الفتاة المراهقة التي لا تمر بتجربة حب ليست فتاة طبيعية،
وإن الفتاة التي لا تعيش مرحلة مراهقتها بشكل عفوي.. سوف تعاني من المراهقة في سن متأخرة (الخمسين ربما) [قد لا يكون النقل دقيقًا لكني أعتقد أن الفكرتين مألوفتان ومفهومتان]. بعض الطالبات كن يستفهمن وبعضهن كن يستنكرن.
قلت: “إن رأيي أن كلتا الفكرتين خاطئتان، لكني لست خبيرًا في هذا المجال، وأن الواقع يكذب ذلك والأمثلة كثيرة عن فتيات وفتيان تجاوزوا هذه المرحلة دون اضطراب كبير ودون أن يخوضوا أو يخضن تجارب حب (كما تسمى)، وهن وهم يحيون حياة طبيعية لا مشاكل فيها. لكن مفهوم الحب مختلط في أذهاننا ويُربط بالجنس في غالب الأحيان، وليس ذلك صحيحًا بالضرورة.
لكن المدرسة التي أخبرتكن بذلك لم تأتِ بشيء من عندها والفكرة يقررها عدد من علماء النفس فيما أعتقد، لكن ليس كل ما يقرره علماء النفس صحيحًا بالضرورة، لا سيما علماء النفس الغربيون الذين يستبعدون البُعْد الإيماني من حسابهم، وأعتقد أن الفتاة التي رُبِّيَت تربية إسلامية صحيحة متوازنة لا ينطبق عليها ذلك بالضرورة.
الفتيات يعشن في بلدة محافظة (تقليدًا لا وعيًا) تميل إلى شيء من التشدد، لا سيما في مثل هذه المسائل. أرجو أن توضحوا رأيكم في ذلك بشيء من التفصيل، وجزاكم الله خيراً، والسلام.
بداية أشكر لك اهتمامك ببثِّ الوعي في صفوف الطالبات اللواتي تدرسهن، رغم صعوبة مهمتك كرجل بين إناث ما زلن في بداية اكتشافهن لأنفسهن ولما حولهن، لكنني لا أشك أن عمق إحساسك بالمسؤولية الملقاة على عاتقك هو الذي جعلك تطرح هذا السؤال علينا.
ومن المهم أن يعرف المراهقون والمراهقات أن الحب ليس عيبًا ولا حرامًا؛ كي لا يتجهوا بعواطفهم المتقدة في هذه السن وجهة خطيرة جدًّا، وهي الوجهة المثلية، بل يجب أن يشرح لهم أن الحب شعور قسري لا يتعلق به تكليف ولا يدخل في نطاق الأحكام أو المحظورات،
فالإسلام ليس له انتقاد على الحب، ولكنه ينتقد الانحرافات التي يقود إليها هذا الحب. وقد صحَّ عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قوله: “إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به نفسها ما لم تقل أو تفعل”، غير أنهم يجب أن يعرفوا أيضًا أن مشاعر الحب شيء، وتعريض الإنسان نفسه لهذه المشاعر شيء آخر، أولهما: انفعال قسري لا اختيار فيه، وثانيهما: فعل اختياري يتحمل صاحبه نتائجه من خير وشر.
ولو أنك يا أخي العزيز كنت قد تابعت ردودنا على صفحة مشاكل وحلول الشباب لعرفت الكثير حول هذا الموضوع، فقد أفضت في أحد ردودي بالكلام عن الحب من وجهة نظر علماء النفس الغربيين المهووسين بالجنس كفرويد وأحد تلاميذه الذي نقض كلام أستاذه، وبين أن منشأ الحب وطبيعته يختلفان عن منشأ الجنس وطبيعته كليًّا، وكذلك من وجهة نظر عالم كبير من علمائنا هو الدكتور البوطي، وأرجو قبل أن تبدأ بقراءة ردِّي هذا أن تعود إلى ذلك الرد، وهو:
– دفاع حار: الحب كما ينبغي أن يكون
وما يمكن أن أضيفه هنا، هو أن الخلط بين الحب والجنس أدى إلى سخافات شائعة بين الشباب والفتيات باسم الحب والحب منها بريء، فكما يُساء استعمال الدين، والقانون، والأدب، والطب، وغيرها، فكذلك يُساء استعمال الحب، وهو ما أدى إلى رفض مفهوم الحب عند الكثيرين من الملتزمين واعتباره حرامًا أو قلَّة أدب،
أما الحقيقة فإن ديننا الإسلام هو الثوب السابغ للفطرة الإنسانية، لا ينكر أشواق الروح ولا يهمل مطالب الجسد، بل يعترف بالميل الغريزي بين الجنسين؛ لأنه الأساس الذي تقوم عليه الحياة والنسل، وعندما سأل أحدهم الرسول -صلى الله عليه وسلم- : يا رسول الله في حجري يتيمة وقد خطبها رجل موسر ورجل معدم، ونحن نحب الموسر وهي تحب المعدم، قال النبي الكريم –عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم-: “ليس للمتحابين مثل النكاح”،
ولم يقل إن الحب عيب أو حرام أو قلة أدب، ولم يأمر بنهر تلك الفتاة أو تأديبها. وقد أورد ابن القيم في كتابه القيم (روضة المحبين ونزهة المشتاقين) قصصًا عن الخلفاء الراشدين -رضي الله عنهم- وكيف شفعوا للمحبين عند محبوبيهم، ولا يتسع المجال لذكرها هنا.
أحب أن أبين خطأ فكرة المعلمة من أن الفتاة التي لا تمر بتجربة الحب هي فتاة غير طبيعية، فالحب الذي هو ضرورة فعلاً وهو دافع فطري متأصل فينا جميعًا هو أن تشعر بأنك محبوب ممن حولك وليس بالضرورة حب بين جنسين مختلفين. وأستشهد لذلك بقول عالم النفس الغربي “تيودور رايك” الذي يقول عن الحب بين الجنسين:
“إن الحب ينمو على تربة عدم الرضا عن الذات، وإن القلق والفزع والاستياء الملحوظ قبل بزوغ الحب هي أعراض ثابتة في سيكيولوجيا هذه الحالة، وهي طرف الخيط الذي يفضي إلى هذه الإشكالية، فالحب فرار من الذات وترياق للنفور منها، وفي بعض الأحيان ترياق حتى لكره الذات الذي يشعر به المرء. إن فلان وغيره من الناس يريدون الابتعاد عن ذواتهم، وإيجاد ملاذ لهم في الحب؛ لأنهم تعبوا من كونهم أنفسهم. أما إذا كانوا راضين عن ذواتهم فإن الحب لا يمكن أن يمسَّهم.
إن حالتهم قبل أن يَفِد الحب إلى حيواتهم حالة حرجة لها طابع الأزمة الداخلية، وفي هذا الوقت تظهر مسألة القيمة؛ لأن الإشكالية التي يواجهها هؤلاء الأشخاص، مع أنهم لا يدركونها عادة، هي إشكالية التقييم الذاتي. ترى، ما هو سبب عدم رضاهم عن أنفسهم؟ إنهم يشعرون بالإحباط بصورة لا واعية؛ إذ يقارنون ما هم عليه مع ما يتمنون أن يكونوه، وما أنجزوه مع ما يرغبون بتحقيقه.
إن سوء ظن المرء بنفسه، وعدم ثقته بها، والشعور بالنقص، والرغبة بذات أفضل هي خطوات تمهيدية ضرورية لتطور الحب، والذي هو محاولة لإعادة توطيد تقدير المرء لذاته”.
هذه الأعراض التي يتكلم عنها هذا الرجل أكثر ما تكون موجودة في مرحلة المراهقة، حيث يبدأ البحث عن الذات لمعرفتها وتقييمها، وقد تمتد لمرحلة الشباب الأولى، ولكنني أوافقك أنه ليس بالضروري أن تكون مرحلة المراهقة صاخبة، فكثيرًا ما تمر بهدوء وبدون عواصف تُذكر، حتى لو مسَّ الحب شغاف القلب فإنه يمسه مس الهوينى، وذلك عندما تكون التربية متوازنة في الصغر، بحيث يمنح الطفل ثقته بنفسه فليس لديه شعور بالنقص، بل على العكس ينشأ متقبلاً لنفسه ولغيره، وإذا كان توازنه كطفل هو طابعه في الطفولة فلا بد أن يمتد إلى سن المراهقة، مع ضرورة وجود الشخص الحميم الذي يفهمه ويتعاطف معه ويشرح له طبيعة المتغيرات التي يمر بها جسديًّا وعاطفيًّا، فإذا لم يكن هذا الشخص أحد الأبوين فليكن أحد المعلمين، وهنا يتبين حجم المسؤولية التي يفترض أن يشعر المعلمون بها.
ولذلك فإنني أقول لهذه المعلمة وأمثالها أنهم مسؤولون أمام الله -عز وجل- أولاً، ثم أمام أمتهم ثانيًا عن هذه الأمانات التي بين أيديهم، فقبل أن تنصح التلميذات بالحب عليها أن تعرف ما هو الحب، وما هو مصيره، خاصة إذا جاء في مرحلة المراهقة؛ إذ ليس من طبيعة حب المراهقة الاستمرار ولا الاستقرار؛ لأنه ينشأ نتيجة دافع الغيرة من الأقوى أو السعي إلى الأفضل، وهذا الدافع يكون في أعماق النفس بحيث لا يمكن الشعور به أصلاً، لكن هذه الدوافع السلبية غالبًا ما تطفو على السطح بعد فترة تطول أو تقصر فلا يعود الحب حبًّا أبدًا، بل يتحول إلى كراهية، وفي ذلك يقول تيودور رايك: “إن الحب كالإيمان يزيد وينقص، وكما يتحول المرء من الكفر إلى الإيمان أو بالعكس كذلك يتحول من الكره إلى الحب أو بالعكس”، وهذا في الحقيقة تفسير لما يحدث من انتهاء أكثر الزيجات التي تمت على أساس العاطفة وحدها بدون إشراك العقل.
فهل بعد هذا نشجِّع شبابنا وفتياتنا على البحث عن الحب كي يعيشوا مراهقتهم الآن قبل أن يحيوها متأخرين؟! هذا خطأ في الرأي؛ لأن المراهَقة قد تكون فكرًا لا عمرًا؛ إذ إن بعض الذين يمرون بتجارب سواء كانت حبًّا أو غيره لا يستفيدون منها. ثم لماذا نشغل طاقات الشباب وتفكيرهم بما ليس له حل إلا الزواج بعد أن أصبح الزواج حلمًا بعيد المنال للكثيرين؟ هل نسكت عمن يشجِّعون الجنس باسم الحب ونحن لا يغيب عن بالنا حديث الرسول -صلى الله عليه وسلم-: “العينان زناهما النظر، والأذنان زناهما الاستماع، واللسان زناه الكلام”، فالحب إذا تجاوز المشاعر القلبية تحول إلى جنس، وإذا لم يمارس ضمن إطار الشرع بالزواج فهو زنى حتى لو كان نظرة. قال -صلى الله عليه وسلم-: “لا تتبع النظرة النظرة، فإن لك الأولى وعليك الآخرة”.
والسؤال المطروح: هل الحب هذه الأيام هو الحب حقًّا؟
الحب بالنسبة للشاب أو الفتاة الآن لا يتعدى الحب الجنسي الذي يراه على التلفاز بعد أن حفلت الفضائيات بالمسلسلات المدبلجة والأفلام العاهرة التي تكفي نظرة واحدة إليها لنعرف أنها موجهة ضد كل فضيلة وأولها فضيلة الحب؛ إذ لا تكمل قصة الحب المعروضة إلا بعد أن تخرج الممثلة مع الممثل وترجع حبلى منه، وتستمر مع عائلتها كأن شيئًا لم يكن، وهنا أسأل: أهذا هو الحب الذي تدعو له تلك المعلمة؟
هل تعرف هذه المثقفة أن الفتاة إذا أحبت تاهت وإذا هويت هوت؟
يحسن بك الرجوع إلى استشارة سابقة يمكن من خلالها مساعدة المراهقة ونصحها،
وهي:
– صغيرتي تبوح فقلبها مجروح- متابعة
– فقد بيَّنت بها خطر وقوع الفتاة في الحب، وكيف يمكن تحويل عواطفها إلى ما هو أسمى.
أخيرًا: إن الفرق بين ما ندعو إليه نحن وما يدعو إليه دعاة التحرر والإباحية ليس كبيرًا فحسب، لكننا نحاورهم بالعقول أما هم فإنهم يحاوروننا بأهواء النفوس: “أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً”؟
ومع ذلك ألسنا نحن مسؤولين كآباء وأمهات وتربويين عن هذه المساحات الخالية في حياة فتياننا وفتياتنا؟ ألا يجب أن يكون في مدرستك معلمة تربية إسلامية تقترب من الفتيات وتناقش معهن مشاكلهن بما فيها العاطفية بدل هذه المعلمة؟ أم أننا سنبقى ممتنعين عن مناقشة مواضيع كالحب والجنس مع أولادنا وتلاميذنا؛ لينخر أصحاب الهوى الفاسد في عقولهم كما يشاءون ويشوهون فطرتهم كما يرغبون؟