شهدنا والحمد لله في السنوات الأخيرة تنامي ظاهرة التدين، خاصة في أوساط الشباب، أو بالمعنى الأدق عودة وليس ظاهرة إن شاء الله، ولكن ما يحيرني يا شيخي هو تنامي الوعي وانحسار التطبيق؛ ففي الجامعات مثلا: تفشى الاختلاط والصداقات المحرمة، بشكل كبير وملحوظ، بل صار أمرًا عاديًا جدًا، مع علم الطرفين بحرمة أفعالهم، وأصبح الإسلام بتعاليمه العظيمة مختزل فقط في الصلاة والصيام والحج، أما بالنسبة للأخلاق والمعاملات فهم فبعيدون كل البعد عنها، وكذلك الاهتمام بالأمة الإسلامية فهو غائب عن أذهان معظمنا، واختزلتاه في المظاهرات والشعارات. والله العظيم يا شيخ قلما أجد شخصًا يحمل هموم الأمة، بل أصبح اهتمام كل واحد منا لا يتعدى أسرته، وأيضا جهلنا بفقه الأولويات، وخلطنا بين الغايات والوسائل، فالنسبة يا شيخ طردية، فكلما زاد التدين زاد الفجور معه، وتعددت طرقه وأساليبه، وتخبطنا نحن معه. فأطفئ لهيب قلبي يا شيخ بإجابة مفصلة وشافية. و جزاك الله خيرا.
السلام عليكِ ورحمة الله وبركاته، وأهلا ومرحبا بكِ، وشكر الله لكِ ثقتكِ بإخوانك في موقع (فور شباب)، ونسأل الله (عز وجل) أن يجعلنا أهلا لهذه الثقة، وأن يجعل في كلامنا الأثر، وأن يتقبل منا أقوالنا وأعمالنا، وأن يجعلها – كلها- خالصة لوجهه الكريم، وألا يجعل فيها لمخلوق حظًا،… اللهم آمين.. ثم أما بعد:
قرأت رسالتك باهتمام شديد، ويسرني في البداية – وقبل الإجابة على أسئلتك- أن أسجل بعض الملاحظات التي لفتت انتباهي في رسالتك، والتي يمكن تلخيصها في النقاط التالية:-
1)الروح الوثابة، والهمة العالية: التي مَنَّ الله بهما عليكِ؛ وقد لمستهما من قولك: (قلما أجد شخصًا يحمل هموم الأمة)، و(فأطفئ لهيب قلبي يا شيخ بإجابة مفصلة وشافية)، وهي نعمة كبيرة من الله عز وجل، تستوجب الشكر؛ فكم من مسلم ومسلمة في زماننا هذا لا روح لديهم ولا همة عندهم، وتراهم وقد كساهم الفتور وأناختهم الهموم.
2)الغيرة على الدين، والخوف على المسلمين: وهي مشاعر جميلة أسأل الله أن يكتبها لك في ميزان حسناتك يوم القيامة، وقد لمستها في قولك: (ولكن ما يحيرني يا شيخي هو تنامي الوعي وانحسار التطبيق)، و(وكذلك الاهتمام بالأمة الإسلامية فهو غائب عن أذهان معظمنا).
3)التشخيص السليم والفهم الدقيق: لحقيقة مشكلات الأمة؛ وهو أمر يعز على الكثيرين من أبناء الأمة الغيورين عليها، بل وقلما يجتمعان سويًا، إلا في عقل وقلب من أراد الله له الخير؛ وقد لمست ذلك من قولك: (بالمعنى الأدق عودة وليس ظاهرة)، و(وأصبح الإسلام بتعاليمه العظيمة مختزل فقط في الصلاة والصيام والحج)، و(واختزلتاه في المظاهرات والشعارات)، و(جهلنا بفقه الأولويات، وخلطنا بين الغايات والوسائل).
أما عن استشارتك؛ فإنني أستعين بالله وأقول لكِ – أختنا الفضلى- :
1)أتفق معك – بداية- فيما ذهبتي إليه، في تشخيصك لبعض أمراض الأمة؛ وإن الناظر المتفحص في أحوالها ليجد أن هناك انفصام بيّن القول والعمل، بين المبدأ النظري والتطبيق العملي، بين الماضي التليد لسلف هذه الأمة والحاضر الأليم لخلفها؛ فالبون شاسع والهوة سحيقة؛ ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم؛ فبقدر ما ترى على الساحة من انتشار للمظاهر الإسلامية يتمثل في: (المساجد المكتظة بالمصلين في الجمع وطوال شهر رمضان/ الحجاب الشرعي بل والنقاب يستر الآلاف من نساء وبنات المسلمين/ اللحى الكثة تزين وجوه الآلاف من الرجال والشبان/ المكتبات والمعارض الإسلامية لا تكاد تخلو منها مدينة إسلامية/ ملايين الحجيج يؤمون بين الله الحرام سنويًا/ البنوك الإسلامية وأفرع المعاملات الإسلامية تزداد يومًا بعد يوم/ …… إلخ)؛ فإننا نلحظ العديد من المظاهر السيئة والمخجلة تعج بها بلدان العالم الإسلامي ومن أمثلة ذلك: (الحانات والملاهي والمراقص تفتح أبوابها للرواد بلا استحياء ولا خوف/ حالات التحرش الجنسي بالبنات أضحت ظاهرة مقلقة تهدد غالب البلدان العربية/ العري والاختلاط والتفسخ صار لباسًا مألوفًا للبنات وطالبات الجامعة في معظم بلداننا/ برامج المسابقات التافهة والقنوات الخليعة تملأ الفضاء بصورة مقننة/ الرشوة والفساد صارا روتينًا يوميًا لغالب المسئولين في بلداننا العربية/ ……إلخ).
2)أن الإسلام – ذلك الدين الناسخ- يتكون من خمسة أصول هي: العقائد والعبادات والمعاملات والأخلاقيات والحدود، فالإسلام ليس دينًا علمانيًا؛ يحصر العبادات في أماكن معينة (المساجد)، أو في أوقات معينة (أيام الجمع وشهر رمضان)؛ وفيه لا ينفصل سلوك العبد عن عبادته، فما قيمة أن تكون من أحرص الناس على أداء الصلوات في أوقاتها وفي الجماعة الأولى بالمسجد وأنت عاق لوالديك، وأنت قاطع لرحمك، وأنت مسيء لجيرانك، وأنت واكل للربا، وأنت واقع في الزنا، وأنت .. وأنت… إلخ؟!!؛ ورحم الله الفاروق عمر بن الخطاب حين قال للرجل: (أراك رأيته يرفع رأسه ويخفضه في المسجد!)، ورحم الله الإمام الشهيد حسن البنا حين قال (…الإسلام نظام شامل يتناول مظاهر الحياة جميعاً؛ فهو دولةٌ ووطنٌ أو حكومةٌ وأمةٌ، وهو خلقٌ وقوةٌ أو رحمةٌ وعدالةٌ، وهو ثقافةٌ وقانونٌ أو علمٌ وقضاءٌ، وهو مادةٌ وثروةٌ أو كسبٌ وغنى، وهو جهادٌ ودعوةٌ أو جيشٌ وفكرةٌ، كما هو عقيدةٌ صادقةٌ وعبادةٌ صحيحةٌ سواءٌ بسواء).
3)لا شك أن الدنيا فتحت ذراعيها للناس، فشغلتهم بالمضمون (الرزق) عن المطلوب (العبادة)، وصار الناس إلا من رحم ربي – وقليل ما هم- على الدنيا منكبون، وللمال جامعون، ولزينتها راغبون، وتناسوا جميعًا قول الحبيب (صلى الله عليه وسلم) فيما رواه أبو هريرة (رضي الله عنه) قال سمعت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول: (ألا إن الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه وعالم أو متعلم). رواه الترمذي وأبن ماجه وحسنه الألباني.
4)من أكثر المصائب التي ابتلي بها بعض العاملين في مجال الدعوة الإسلامية؛ قصور الفهم، وإليه يرجع جهل بعض الدعاة بفقه الأولويات، وخلطهم بين الوسائل والغايات، ورحم الله الشيخ محمد الغزالي (السقا) فقد كان يقول: (الإسلام قضية ناجحة لكن محاميها ضعيف)، (الإسلام يا له من دين لو أن له رجال)، ورحم الله رجلا فقيهًا (الإمام الشهيد حسن البنا) قدم الفهم على الإخلاص، وجعله الركن الأول من أركان بيعة العمل للإسلام.
وقبل أن أختم كلامي فإنني أؤكد لكِ – أختنا الكريمة- أن الحل الوحيد لما تعانيه أمتنا من الهوان، ولما نعانيه جميعًا من الانفصام بين القول والعمل، بين المبادئ النظرية والوقائع اليومية، يتلخص في:-
1)التوبة الصادقة، مما نحن فيه من الذنوب، والمقاطعة النهائية للمعاصي؛ قال تعالى: (وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [النور- 31].
2)العودة الفعلية للإسلام، والتي لخصها الرسول في قوله للرجل الذي سأله: قل لي في الإسلام قولا لا أسأل عنه أحدًا بعدك، فقال له (صلى الله عليه وسلم): “قل آمنت بالله ثم استقم”. (رواه مسلم).
3)الثقة بالله (عز وجل)، وبموعوداته (سبحانه وتعالى)، وأن النصر لهذا الدين مهما طالت جولة الباطل وعلا صوته؛ قال تعالى: (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا) [النور- 55].
4)التزام الصبر، وبذل أقصى الجهد، وترك اليأس والقنوط من التغيير والإصلاح؛ قال تعالى: (إِنَّ اللهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ…) [الرعد- 11].
5)التعاون (مع المصلحين) على مقاومة الظلم والفساد، مهما كان حجمه، قال تعالى: (…وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) [المائدة- 2].
6)اليقين بأن علينا بذل الجهد والوسع، وليس علينا إدراك النتائج، فإنها في علم الله (عز وجل)؛ قال تعالى: (وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [التوبة- 105].
وختامًا؛
فإن ما سبق لا يعدو أن يكون تشخيصًا للداء ووصفًا للدواء؛ وعلى الله وحده الشفاء، وبه سبحانه الأمل والرجاء، نسأل الله تعالى أن يوفقكِ في مهمتكِ، وأن يجعلك سببًا في الهداية، وأن يعينكِ بمدد من عنده، وأن ير الناس إلى صوابهم ورشدهم ودينهم ردًا جميلا، وأن يصرف عنا جميعًا معصيته، وأن يرزقنا وإياكم رضاه والجنة، وأن يعيذنا من سخطه والنار، وأن يهدينا وإياكم إلى الخير، وأن يصرف عنا وعنكم شياطين الإنس والجن، إنه سبحانه خير مأمول وأفضل مسئول.
وصل اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.